ملاحظات حول علوم المقاصد

ملاحظات حول علوم المقاصد

0
Share

 ملاحظات حول علوم المقاصد                            سيد دسوقي حسن

اقرأ في القرآن الكريم قوله تعالى “وأقصد في مشيك” فأفهم منها أن كل حركتي في الحياة لابد لها من قصد محدد.

ثم اقرأ قوله تعالى “وعلى الله قصد السبيل” فأدرك أن قصدي في كل حركتي لابد أن أستمده من كتاب ربي وليس الأمر هوى أخترعه لنفسي، ولقد أعطاني هذا الفهم منهجاً أبحث به عن القصد الذي يجب أن نضعه أمامنا ونحن نمشي في حياتنا الدنيا.

       ومن روائع الخلق أن الله أودع في كل مخلوقاته قصداً تتبناه في سعيها في الحياة وهي ملزمة به بحكم خلقتها.

أنظر مثلاً إلى الضوء، فبينما ينتقل الضوء من مكان إلى مكان لابد أن يختار المسار الذي يحقق له أقل وقت، وقد يكون هناك مسار أقل مسافة ولكن أكثر إعاقة فلا يختاره الضوء، هذه الظاهرة تعرف باسم مكتشفها فرمات “Fermat” ويعكف علماء الفيزياء على اكتشاف هذه المقاصد الإلهية لحركة الأشياء، وربما اكتشفوا قصداً جزئياً ثم تبين لهم بعد ذلك قصد كلي يستوعب هذه المقاصد الجزئية ويحتويها.

       وكذلك أمر الدين، فالدين يحدد مقاصد كلية ومقاصد جزئية، مقاصد كليه للسعي في الحياة كلها ومقاصد جزئية لكل المنظومات الحياتية.

 

اقرأ قوله تعالى:

       “هو الذي بعث في الأميين رسولاً منهم يتلو عليهم آياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة وإن كانوا من قبل لفي ضلال مبين” (الجمعة 2).

فالقصد من الدين هو التزكية والعلم والحكمة، والرسول يعرض عليهم آيات الله في الكون وفي النفس وفي المجتمع حتى يُعد المؤمنين لهذه المهام الثلاث – التزكية والعلم والحكمة – والتزكية هي تحرير النفس من الأوساخ والأدران وجعلها في استعداد دائم للعطاء، وهي تفعل ذلك وهي مزودة بمجموعة من العقائد التي تربطها بخالق الكون فلا يكون العطاء لمصلحة “آنية” أنانية وإنما هو عطاء يبتغي وجه الله ورضوانه، ولذلك فتثبيت هذه العقائد في الأفئدة هي أول عمل يقوم به الرسول (ص) حتى تصبح هذه العقائد هي الجدوى الربانية لكل أعمال الإنسان في الحياة الدنيا.

والقصد الكلي الثاني هو اقتفاء العلم في كل نواحي الحياة، والله يقول “ولا تقف ما ليس لك به علم، إن السمع والبصر والفؤاد كل أولئك كان عنه مسئولا” (الإسراء 36) ، فالنفس المزكاة الحاملة في أعماقها عالم العقائد والقيم التي بشر بها الدين سوف تقف في مسيرتها العلم النافع للإنسان وستخضع سعيها العلمي لعالم قيمها فتعيش في تناغم مع نفسها ومع كونها المحيط بها.

والقصد الكلي الثالث هو تعليم الحكمة، والحكمة هي القدرة على فهم كل محدثات الحياة التي تصادف الإنسان في حياته من قضايا اجتماعية أو اقتصادية أو سياسية ثم القدرة على اقتراح الحلول المناسبة التي تأخذ في الحسبان قدرات الناس على التغيير والتدرج بهم من واقع يعيشونه إلى مأمول هو خير لهم من واقعهم. ومن الحكمة أيضاُ أن تسعى العقول المؤمنة العالمة إلى استخراج كل المقاصد الجزئية للمنظومات الحياتية المختلفة من القرآن الكريم، وسوف نضرب الآن بعض الأمثلة لهذه المقاصد التي تتعلق ببعض المنظومات الجزئية في الحياة.

مقاصد جزئية:

1-   مقصد السكينة في الأسرة….

يقوم الاجتماع الإنساني على بنيتين أساسيتين: الأولى هي الأسرة، والثانية هي الأمة، وقد جعل الله هدف النشاط الإنساني في الحياة تحقيق “السكينة الاجتماعية” في هاتين المؤسستين. ففي السكينة الأسرية يقول الله تعالى: “ومن آياته أن خلق لكم من أنفسكم أزواجا لتسكنوا إليها وجعل بينكم مودة ورحمة إن في ذلك لآيات لقوم يتفكرون” (الروم: 21).

وتقوم السكينة الأسرية على الحفاظ على القيم الخالدة التي جاءتنا وحيا، وليست سكينة تقوم على التراضي المؤقت على قيم غير ربانية. وفي الآية الكريمة كلمتان حاكمتان: الخلق والجعل، فشاءت إرادة الله أن يخلق لنا من أنفسنا أزواجا لنسكن إليها، أي نحقق سويّا السكينة التي يأمرنا الله بجعلها هدفا لكل نشاطنا الإنساني، ثم علمنا المولى أن الطريق لتحقيق هذه السكينة يتمثل في أمرين، هما: المودة والرحمة في التعاملات بين الزوجين. فالجعل في هذه الآية هو مشيئة إلهية أو قل هو سنة من سنن الله تعالى.

إن الطريق إلى السكينة يحتاج إلى عمل إنساني في اتجاهين: المودة والرحمة، فالجعل في هذه الآية هو مشيئة إلهية وعمل إنساني، والتوادّ هو أن أجعل نشاطي مع الآخر محاطاً بالحب القاصد وجه الله، حتى في أخص العلاقات بين الزوجين، حيث يتوجهون بها إلى مرضاة الله تعالى، فيثيبهم عليها سكينة وأمنا (وفي بضع أحدكم صدقة…)، والتواد في حدود القدرة، وقد يكون أحد الزوجين أقدر من الآخر، وهنا تدخل الرحمة؛ فالأمر ليس توادّاً فحسب، وإنما يرحم أحدنا الآخر فيما لم يقدر عليه.

وتأكيدا لهذه المعاني انظر إلى قول الله تعالى: “وقرن في بيوتكن ولا تبرجن تبرج الجاهلية الأولى…” (الأحزاب: 33)، ولقد رأى فيها البعض معنى الْزمْنَ البيوت؛ فلا تخرجن منها لغير حاجة مشروعة، ولكن لفظة “قَرْن” و “قِرْن” كلاهما من القرار، وهو السكون الجميل أو السكينة، ومنه أيضا “وَقَرِّي عَيْناً”: أَمْرٌ من قرَّت عينه تقِرُّ بالكسر والفتح قُرَّة وقَرَّة وقُرورا، إذا رأت ما كانت متشوقة إليه، مأخوذة من القرار بمعنى الاستقرار، أي السكون الجميل والسكينة. فإن كان هذا الاستقرار وهذه السكينة تستلزم البقاء في البيت فلا مانع، ولكن الآية أشمل من ذلك، والهدف واضح وهو تحقيق السكينة في الخلية الأساسية في جسد الاجتماع الإنساني: الأسرة.

2-   مقصد السكينة في الدولة أو آية الملك الصالح…

آية الملك الصالح:

“ألم تر إلى الملأ من بني إسرائيل من بعد موسى إذ قالوا لنبي لهم ابعث لنا ملكاً نقاتل في سبيل الله قال هل عسيتم إن كتب عليكم القتال ألا تقاتلوا قالوا وما لنا ألا نقاتل في سبيل الله وقد أخرجنا من ديارنا وأبنائنا فلما كتب عليهم القتال تولوا إلا قليلا منهم والله عليم بالظالمين” (246) وقال لهم نبيهم إن الله قد بعث لكم طالوت ملكاً قالوا أنى يكون له الملك علينا ونحن أحق بالملك منه ولم يؤت سعه من المال قال إن الله اصطفاه عليكم وزاده بسطة في العلم والجسم والله يؤتي ملكه من يشاء والله واسع عليم (247) وقال لهم نبيهم إن آية ملكه أن يأتيكم التابوت فيه سكينة من ربكم وبقية مما ترك آل موسى وآل هارون تحمله الملائكة إن في ذلك لآية لكم إن كنتم مؤمنين (248) ” (البقرة 246-248).

       لن نقف طويلاً مع هذه الآيات المحكمات ولا مع بقية القصة العظيمة لهذا الملأ من بني إسرائيل من بعد موسى فلذلك حديث آخر، ولكنني أقف مذهولاً أمام هذا الوصف المحكم لخصائص نظام الملك الصالح .. صحيح أنني قرأت هذه الآيات كثيراً من قبل وترددت رافضاً تلك التفسيرات التوراتية لمعنى التابوت ووقفت شبه مؤيد لما أورده الزمخشري (في الأساس) والبيضاوي وابن الأثير والراغب وتاج العروس فيما نقله عنهم جميعاً إمامنا محمد أسد في ترجمته حيث أضافوا احتمالاً لكلمة التابوت بمعنى (القلب) أو (الصدر) ولكنني أظن أن الأمر يتعلق بتعظيم الحفاظ على أمرين: الأول هو السكينة والثاني هو القيم الخالدة التي جاءت وحياً (بقية مما ترك آل موسى وآل هارون تحمله الملائكة).

       والتابوت يمثل أدوات هذا الحفظ من مناهج وبرامج وخطط في السياسة والاقتصاد والاجتماع. والقرآن يستخدم كلمة السكينة بمعنى السلام الداخلي الديناميكي وفي سورة الفتح يقول المولى:

“إذ جعل الذين كفروا في قلوبهم الحمية حمية الجاهلية فأنزل الله سكينته على رسوله وعلى المؤمنين وألزمهم كلمة التقوى وكانوا أحق بها وأهلها وكان الله بكل شيء عليماً” (الفتح 26).

       فالسكينة الاجتماعية هي الضد للحمية الجاهلية التي تجعل الناس أحزاباً وشيعاً يتقاتلون على المتاع الزائل في هذه الحياة الدنيا، وهذه الحمية الجاهلية هي العنوان الواضح لفساد الحكم:

“إن فرعون علا في الأرض وجعل أهلها شيعاً يستضعف طائفة منهم يذبح أبناءهم ويستحيي نساءهم إنه كان من المفسدين” (القصص 4).

       من أجل ذلك ينبغي أن تنشأ في الأمة جماعات إصلاحية مهمتها قياس مدى الحفاظ على السكينة الديناميكية في الأمة وعلى القيم الثابتة الربانية، فإن رأت تضييعاً لهما  أبدعت من النظم التربوية والثقافية والتشريعية ما يعظم حفظهما..فإن في حفظهما حفظاً للأمة : راعياً ورعّيةً، …….والله أعلم.

3-   مقصد “التعارف” في العلاقات الدولية…

“يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم” (الحجرات 13).

أي إن التفاعل الحضاري واجب قرآني من أجل أن يتعارف الناس ليتكاملوا، وهو تعارف وتكامل يحكمه الإيمان بالعقائد وتحكمه التقوى ويحكمه الأمر بغياب روح الهيمنة والعلو والفساد.

4-   مقصد الإسلام من القتال هو التحرير ومنع الفتنة …

القتال المشروع في القرآن:

” وقاتلوا في سبيل الله الذين يقاتلونكم ولا تعتدوا إن الله لا يحب المعتدين، واقتلوهم حيث ثقفتموهم وأخرجوهم من حيث أخرجوكم والفتنة أشد من القتل ولا تقاتلوهم عند المسجد الحرام حتى يقاتلوكم فيه فإن قاتلوكم فاقتلوهم كذلك جزاء الكافرين. فإن انتهوا فإن الله غفور رحيم. وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة ويكون الدين لله فإن انتهوا فلا عدوان إلا على الظالمين. الشهر الحرام بالشهر الحرام والحرمات قصاص فمن اعتدي عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم واتقوا الله واعلموا أن الله مع المتقين”. (البقرة 190 – 194).

وفي مجال التحرير يأتي الرد على الاعتداء على الأرض والنفس والمال، وتحرير الشعوب من الطواغيت سواء كانوا من المحتلين أو من المستكبرين الذين يستذلون الشعوب ويقهرون الضعفاء من الرجال والنساء والوالدان، ويسخرون الأمم لشهواتهم وحماقاتهم.

وفي مجال منع الفتنة يأتي منع إجبار الناس على اعتناق مالا يريدون، ومنع إجبارهم على ترك ما يؤمنون به، ومنع دفعهم بالأذى والتعذيب والقتل لفتنتهم عن عقائدهم. ومن الأذى في هذا المجال أن يُمنع عباد الله من حرية ممارسة شعائرهم، والمسلمون مطالبون بأن يدافعوا عن حرية الآخرين في إقامة شعائرهم حتى وإن كانوا من أتباع الديانات الأخرى وجعل دفع الله للمسلمين بالطغاة هدفا أساسيا من أهداف الاجتماع الإنساني حتى تبقى دور العبادة عامرة بروادها ” ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لهدمت صوامع وبيع وصلوات ومساجد يذكر فيها اسم الله كثيرا”.

وذلك كله من أجل أن لا تكون فتنة ويكون الدين لله، أي أن يتوجه كل مخلوق إلى ربه من غير شريك طاغوتي، وبحرية تامة لا يشوبها أي إجبار، فلا إكراه في الدين. ومن ناحية المصطلحات فإن القتال جزء من الحرب، والحرب جزء من الجهاد، القتال هو الجزء الذي يتواجه فيه الخصمان من غير خفاء، أما الحرب فهي أشمل من ذلك ولها أساليبها الظاهرة والخفية، وقد لا يكون فيها قتال، أما الجهاد فهو عملية استعداد دائم قبل الحرب وأثناء الحرب وبعد الحرب، وأهم ما في الجهاد أن النية الفردية فيه على مستوى الفرد، والنية الجماعية على مستوى الأمة، والنية الرسمية على مستوى الدولة كلها في سبيل الله وابتغاء مرضاته وليست للعلو والإفساد فالله تعالى يقول : ” تلك الدار الآخرة نجعلها للذين لا يريدون علوا في الأرض ولا فسادا والعاقبة للمتقين” (القصص  83) .

5-   مقاصد السبيل الاقتصادي …

–       تقليل الفرق بين الغرم والغنم في المعاملات.

–       أن لا يكون المال دولة بين طبقة معينة من الناس.

نسأل: ما هو القصد في السبيل الاقتصادي؟.. نبحث عن هذا القصد في القرآن الكريم وهذه مهمة علماء الاقتصاد المسلمين ولأنني لست منهم فسأذكر بعض الاحتمالات التي بدت لي من قراءاتي لبعض نجوم هذه العلوم وللقرآن الكريم كذلك.

فمثلا ينبغي أن تكون من غاية أي سبيل اقتصادي أن نقلل من ” تعظيم ثروات البعض بصفة دائمة وتصغير ثروات آخرين بصفة دائمة”. وذلك حتى لا يكون المال دولة بين الأغنياء من الناس.

ومثلا في التعاملات الاقتصادية ينبغي أن نحاول تصغير الفرق بين الغرم والغنم لكل المشاركين في المعاملة.. وإلا اقتربنا من الربا. والمعاملات الربوية هي التي يزيد فيها الغرم عن الغنم بالنسبة لطرف ويزيد الغنم عن الغرم بالنسبة لطرف آخر.

وأي حل لهذه المعضلة لن يقضى تماما على الفرق بين الغرم والغنم بالنسبة للطرفين ولذلك فالمطلوب هو إبداع النظم الاقتصادية التي تقلل ما استطاعت بين الغرم والغنم لجميع الأفراد، ولا أعتقد أن المحاولة التي قامت بها بعض البنوك-تحت مسميات الاقتصاد الإسلامي- قد حققت حلا لهذه المشكلة، ومازلنا ننتظر من مؤسساتنا المالية أن تبحث عن حلول أكثر رشداً وربما تكون المشكلة هي النظام البنكي نفسه والذي يستدعي من علمائنا في الاقتصاد نظماً بديلة.

وبالمناسبة فإننا في علوم المادة نسمي السبيل الذي تسلكه المادة لتحقيق مقاصدها التي فطرها الله عليها نسميه الطريق المثالي أو بلغة القرآن ” الصراط المستقيم” وكذلك في علوم الاجتماع، نعلم أن المقاصد التي حددها الله لنا في حياتنا لها طريق أو سبيل مثالي، قد لا نعرفه ولكننا موقنون بوجوده وينبغي أن نبحث عنه وأن نسعى للاقتراب منه قدر طاقتنا. ونحن ندعوه في كل صلاة: اهدنا الصراط المستقيم..

فربما لا نستطيع أن نلغى الفرق بين الغرم والغنم في معاملاتنا ولكنه ينبغي أن يكون هدفنا فنصمم السبل الاقتصادية ونعيد تصميمها مرات ومرات حتى نقترب قدر الاستطاعة من تقليل الفرق بين الغرم والغنم قرابة الصفر، ولا يحسبن امرؤ أن هذا أمر يسير فتحديد الغرم والغنم في عالم أسعار متغير آناء الليل وأطراف النهار، وفي ظل اقتصاد عالمي يضغط علينا ضغطاً متصلاً، وفي ظل نظام تنموي مقهور من قوى اقتصادية داخلية وخارجية يصبح هذا التحديد غاية في الصعوبة ومن ثم فمبدأ ” اتقوا الله ما استطعتم” هو المطلوب، فإذا لم نستطع الوصول إلى الصفر بين الغنم والغرم فلنقلل قدر الاستطاعة من غير أن يتهم بعضنا بعضا ويزايد عليه في الدين، ولننظر كيف تصرف رسول الله(ص) في فيء بني النضير تأكيدا لما رأيناه من أنه من مقاصد السبيل الاقتصادي أن نقلل من تعظيم ثروات البعض بصفة دائمة وتصغير ثروات آخرين بصفة دائمة.

والفيء- في لغة القرآن- هو ما أخذه المسلمون من أعدائهم سلما من غير حرب والله يقول في سورة الحشر ” وما أفاء الله على رسوله منهم فما أوجفتم عليه من خيل ولا ركاب ولكن الله يسلط رسله على من يشاء والله على كل شيء قدير. ما أفاء الله على رسوله من أهل القرى فلله وللرسول ولذي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل كي لا يكون دولة بين الأغنياء منكم وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا واتقوا الله إن الله شديد العقاب. للفقراء المهاجرين الذين أخرجوا من ديارهم وأموالهم يبتغون فضلا من الله ورضوانا وينصرون الله ورسوله أولئك هم الصادقون. والذين تبوءو الدار والإيمان من قبلهم يحبون من هاجر إليهم ولا يجدون في صدورهم حاجة مما أوتوا ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة ومن يوق شح نفسه فأولئك هم المفلحون” (الحشر 6-9).

فالمسلمون لم يحاربوا في هذه الغزوة بل ذهبوا رجالاً إلى بني النضير وكانت على بعد ميلين من المدينة ومن ثم لم يوجفوا أي لم يسرعوا بخيلهم وإبلهم إليها فما غنموا منهم ليس غنيمة يقسم أربعة أخماسها على المقاتلين ويعطي خمسها لله وللرسول ولذي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل، وإنما يظل نصيب هذه الأقسام كما هي الخمس، وتذهب الأربعة أخماس خالصة للدولة ممثلة في رئيسها يوزعها حسب المقاصد الكلية لاقتصاديات المجتمع، وهذا ما فعله رسول الله بأمر ربه إذ أعطاها لفقراء المهاجرين ولم يعط منها الأنصار شيئا سوى ثلاثة نفر من فقرائهم وقال للأنصار: ” إن شئتم قسمت أموال بني النضير بينكم وبينهم”. ” أي  المهاجرين” وأقمتم على مواساتهم في ثماركم وإن شئتم أعطيتها للمهاجرين دونكم وقطعتم عنهم ما كنتم تعطونهم من ثماركم ” فقالوا بل تعطيهم دوننا ونقيم على مواساتهم فأعطي المهاجرين دونهم فاستغني القوم جميعا المهاجرون بما أخذوا والأنصار بما رجع إليهم من ثمرهم.

وخلاصة الدرس أن المال الذي يأتي للدولة من غير جهد يتكبده الناس مثل ما يفتح الله به على الناس من ركاز ينبغي أن تتصرف فيه الدولة بطريقة تقلل من هذا التفاوت في الأموال بين الذين يعملون جميعا بعد أن تعطي خمسه للحالات الخاصة من الضعفاء الذين لا يقدرون على عمل.

وإذا أطلقنا مفهوم الهجرة على كل الرجال والنساء الذين هاجروا إلى أعمالهم ابتغاء مرضاة الله، هؤلاء القضاة وهؤلاء المعلمين وهؤلاء القائمين على أمننا في الداخل والخارج وأمثالهم وأضرابهم ممن هاجروا إلى وظائفهم يؤدونها بإحسان لا تلهيهم عن ذلك تجارة أو بيع، ما داموا قد جعلوا وظائفهم ذكر الله فأخلصوا وأحسنوا وتفرغوا لها بعلمهم ومهارتهم.. هؤلاء هم ورثة أهل الهجرة.. بدونهم لا تقوم للدولة قائمة.. كيف تبدع الدولة نظامها الاقتصادي لتحقيق ما ذكرنا من مقاصد وما لم نذكر مما يستنبطه علماؤنا في الاقتصاد من القرآن والسنة في آيات متدثرة في آيات الذكر الحكيم أو في تلافيف تطبيق نبوي في دولة المدينة..كيف تبدع الدولة مثل هذا النظام، وكيف تنشئ المعاهد المتخصصة والمراكز البحثية لهذا الأمر هو فرض عين ينبغي أن يجتهد فيه ذوو العقول الجبارة في عالم الاقتصاد أو قل نفر الفقه الاقتصادي.

6-   1 مقاصد التنمية العامة:

إيلاف الناس وسائل التنمية التي تؤدي إلى الإطعام من جوع والأمن من خوف في ظل عقيدة تربط الناس بخالقهم.

أهداف التنمية في الإسلام …

يقول الله تعالى في محكم تنزيله : ” لإيلاف قريش. إيلافهم رحلة الشتاء والصيف. فليعبدوا رب هذا البيت. الذي أطعمهم من جوع وآمنهم من خوف” ( قريش 1-4)

الإطعام من جوع والأمن من خوف هما العنصران الأساسيان في أهداف التنمية في الإسلام. والإطعام ليس من شبع ولكن من جوع والأمن ليس من غفلة ولكن أمن من خوف. وكأن الأصل في حياة الإنسان أن يتخفف من ثقل الطين فلا يأكل إلا من جوع، وكذلك ينبغي أن يظل الإنسان في حالة انتباه وخوف فيأتيه الأمن من ربه وحالتا ” الجوع والخوف” هما المقابلتان لحالتي ” الترف والغفلة”. والإسلام يكره ” الترف والغفلة” وأصل الداء في كل مجتمع هو هذا المزدوج النكد ” الترف والغفلة”. ( وإذا أردنا أن نهلك قرية أمرنا مترفيها ففسقوا فيها فحق عليها القول فدمرناها تدميرا)   (الإسراء : 16).

( ودخل المدينة على حين غفلة من أهلها فوجد فيها رجلين يقتتلان هذا من شيعته وهذا من عدوة فاستغاثه الذي من شيعته على الذين من عدوه فوكزه موسي فقضى عليه قال هذا من عمل الشيطان إنه عدو مضل مبين) ( القصص : 15).

فالترف من طبيعته أن يؤدي إلى الفسق لا محالة، كذلك الغفلة تؤدي إلى ظهور العصبيات المريضة وتجعل الناس شيعا وأحزابا أو كلاهما – الترف والغفلة- يؤدي إلى هلاك الحضارات وزوال المجتمعات.

فانظر – رحمك الله- إلى هذا الإعجاز الخالد في تعريف أهداف التنمية في الإسلام ( أطعمهم من جوع وآمنهم من خوف).

فكل تنمية تؤدي إلى ترف وإلى غفلة هي حرام شرعا. ورسول الله (ص) يقول ( نحن قوم لا نأكل حتى نجوع وإذا أكلنا لا نشبع). وكان هو وصحابته في حذر دائم وخوف دائم رغم الثقة المفرطة في الله، وعندما أعجبتهم كثرتهم يوم حنين كانت قد تسللت إليهم الغفلة فنزل قول الله تعالى : ( ويوم حنين إذ أعجبتكم كثرتكم..)      ( التوبة: 25)

وعلى مستوى الفرد والجماعة والأمة يجب أن يظل الخوف هو الحال الدائم في النفوس، والله وحده يعدنا أنه سيبدل خوفنا آمنا.

نخاف على أنفسنا من الشياطين، ونخاف على بلادنا من المستكبرين، ونخاف على أنفسنا الأهواء الغلابة. ونخاف على أبنائنا من النفاثين في العقد في وسائل إعلامنا.

والخوف هو عدم الاطمئنان إلى الدنيا وعدم الركون إليها.. ومن الدنيا عمل الإنسان نفسه، والمؤمن يتوجه إلى الله دائما طالبا الطمأنينة من لدنه مرتكنا عليه وحده، والله تبارك وتعالى يقول : (من كان يريد العزة فلله العزة جميعا) وهو القائل ( الذين آمنوا وتطمئن قلوبهم بذكر الله ألا بذكر الله تطمئن القلوب) ( الرعد : 28)

وهذا الخوف يستدعى جهاداً، كما يستدعى الجوع مشقة وعسرا. والله تبارك وتعالى وعدنا أنه سيخلق مع العسر يسرا.

استوقفني بيت من الشعر وأنا طالب في الجامعة في منتصف الخمسينات يقول:

 

رددي في الأسر يسرا.. إن بعد العسر يسرا

قلت في نفسي لماذا استبدل الشاعر ” مع” بـ ” بعد”. وكنت أيامها أدرس هندسة الطيران. وفي مادة الديناميكا الهوائية والتي نبحث فيها عن القوى المتولدة من سريان الهواء حول الأجسام: قوى معوقة وقوى رافعة. لاحظت أن العلماء عندما أهملوا لزوجة الهواء وهي السبب وراء قوى الإعاقة- لم يجدوا بمعادلاتهم ما ينشئ لهم قوى الرفع وهي القوى المطلوبة. وعندما وضعوا لزوجة الهواء في معادلاتهم ظهرت قوة الرفع مع قوة الإعاقة، وأصبح هم العلماء كيف يشكلون الأجسام من أجل تعظيم الرفع وتقليل الإعاقة.. هما معاً دائماً: الرفع والإعاقة أو اليسر والعسر.. هكذا شاء الله في المادة والإنسان، وليس هناك يسر محض ولا عسر محض وإنما ينشآن معاً، ومهمة الإنسان – بفضل الله وبرحمته وبما وهبه من علم- أن يقلل الإعاقة ويعظم الرفع. وربما كانت هذه الملاحظة التي وهبنيها الله وأنا شاب جعلتني شديد الحذر كثير التوقف عند كل لفظ من ألفاظ القرآن. من كان يظن أن ” إن مع العسر يسرا” قانون مادي وقانون حياتي؟..أي قانون يحكم المادة ويحكم الإنسان والكون المحيط.. هذا القانون العام ذو تطبيق تنموي ترجمته الآية: ( أطعمهم من جوع وآمنهم من خوف).

ومتى طعم الإنسان من جوع وأمن من خوف فإنه ينطلق في الحياة ليملأها خيرا وبركة ونماء.. تماما كمثل النحل في سورة النحل ( وأوحي ربك إلى النحل أن اتخذي من الجبال بيوتا ومن الشجر ومما يعرشون. ثم كلي من كل الثمرات فاسلكي سبل ربك ذللا يخرج من بطونها شراب مختلف ألوانه فيه شفاء للناس إن في ذلك لآية لقوم يتفكرون) (النحل : 68، 69).. تعلم النحل كيف يسكن ويأكل ويسلك سبل ربه ذللاً.. لا خوف ولا جوع.. والنتيجة شراب مختلف ألوانه فيه شفاء للناس.

وقبل أن ننهي الملاحظات عن ” الترف والغفلة” نشير إلى أن الترف هو الحالة التي تنشأ عن التكاثر، والتكاثر في لغة القرآن هو ( كما يصفه أسد في ترجمته) الأطماع من أجل المزيد (Greedily Striving for more gains ) المزيد من المنافع سواء كانت حسية أو غير حسية، حقيقية أو وهمية، وهي تعبر أيضا عن انشغال الإنسان الكامل بمزيد من الراحة ومزيد من الأشياء المادية ومزيد من القوة فوق الآخرين وفوق الطبيعة ومزيد من التقدم التكنولوجي.. كل ذلك من غير أن يضع الإنسان لنفسه أي اعتبارات أخلاقية أو بيئية.. المهم هو المزيد والمزيد والمزيد، وكلما ازداد قوة ومادة أعرض ونأي بجانبه بعيدا عن أي قيمة حاكمة.. إن التكاثر يحمل في طبيعته جرثومة الإهمال للقيم التي تحاول أن ترشد خطى الإنسان في الحياة، ومع الوقت يفقد الإنسان نفسه وتفقد المجتمعات هديها ويبدأ الانهيار المعنوي ثم الانهيار المادي نفسه.

والقرآن يقسم أن هذه الحالة هي تعبير عن الجحيم في الدنيا (لترون الجحيم)، ثم إن الإنسان سوف يرى هذا الجحيم في الآخرة ( لترونها عين اليقين) ولسوف يسأل حينئذ عن النعيم الذي ربما يكون قد تحصل عليه من خلال عملية التكاثر هذه..

وفي كتابه الرائع خارج حدود السيطرة يصف برجسنكي مستشار الأمن القومي للرئيس كارتر حالة المجتمع الأمريكي وصفا يقترب من معني التكاثر فيقول إنه مجتمع ” إباحية الوفرة”، ويعني بها حالة المجتمع الذي يسمح فيه بكل شيء ويمكن الحصول فيه على كل شيء، وهو مجتمع ضاعت فيه القيم وانصب جهد الإنسان فيه على تلبية رغباته وإرضاء شهواته.

وفي رأي برجسنكي أن هذه الحالة تنشأ من عاملين: أولهما الوفرة المادية عند قطاع من الناس، وثانيهما الشعور بعدم الامتلاك الكامل لهذه الوفرة عند القطاع الأكبر من الناس، مما يحثهم إلى التدافع في طلب هذه الوفرة ومحاولة امتلاكها بكل السبل.

إن عالم إباحية الوفرة عالم اختلت فيه موازين الأخلاق وموازين الخير والشر وتم استبدالها بموازين من صنع البشر ” قانونية أو غير قانونية”، وفي مثل هذا العالم تم إقصاء القيم الدينية الداخلة في ضمير الفرد واستبدل بها قوانين وقواعد خارجية تنفذها أجهزة الشرطة والأجهزة القانونية.

6-2 – مقاصد التنمية الفرعية ….

  • القصد والاقتصاد.
  • الوظيفية.
  • الجمالية.
  • الحجم الأمثل.
  • القدرة الذاتية على الإيلاف.
  • الامتداد الزماني.
  • الامتداد المكاني.

القصد والاقتصاد…

كل سعي في الحياة ينبغي أن يكون قاصدا، فالله يقول: {واقصد في مشيك} أي اجعل لمشيك قصدا، والمشي في الحياة هو السعي فيها، أما تحديد القصد الذي ينبغي على الإنسان أن ينضبط به فهو القصد الذي حدده الله تبارك وتعالى: {وعلى الله قصد السبيل}.. هو وحده الذي يحدد لنا قصد سبلنا من خلال القيم المستكنة في كتابه الكريم (انظر ترجمة محمد أسد في تأويل هذه الآية).

ولقد قرأت في التراث أن عصفوراً اشتكى إلى ربه طفلا قتله فقال: قتلني عبثا ولم يقتلني منفعة.

والله تبارك وتعالى يذم أقواما فيقول: {أتبنون بكل ريع آية تعبثون * وتتخذون مصانع لعلكم تخلدون * وإذا بطشتم بطشتم جبارين} (الشعراء: 128 – 130).

والقصد والاقتصاد هما جوهر التعامل الإنساني مع البيئة المحيطة في النظرة الإسلامية {وابتغ فيما آتاك الله الدار الآخرة ولا تنس نصيبك من الدنيا وأحسن كما أحسن الله إليك ولا تبغ الفساد في الأرض إن الله لا يحب المفسدين} (القصص: 77)، فابتغاء وجه الله وعدم الفساد في الأرض والإحسان إلى من حولك وأخذك نصيبك من الدنيا هو القصد الذي يبتغيه الإسلام لك، ولكنك في كل هذا {ولا تجعل يدك مغلولة إلى عنقك ولا تبسطها كل البسط فتقعد ملوما محسورا} (الإسراء: 29).

وإنه ينبغي عليك أن تقتصد ولو كنت على نهر جار، وما عال من اقتصد كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم. والترف ظاهرة محتقرة في القرآن الكريم وهي من أمراض الحضارات التي تعمل في النهاية على تقويض ما أنتجه الإنسان في فترات السمو الروحي والنمو العقلاني.

ولذلك ينبغي أن يخطط المجتمع المسلم لتنميته بحيث لا تؤدي بطائفة من هذا المجتمع أو بالمجتمع بأكمله إلى نزيف مهلك، فإذا كان الخيار في تخطيط منظومتنا التنموية بين تكثيف العمل أو تكثيف الإنتاجية اخترنا تكثيف العمل، ذلك أنه يمكن تكثيف الإنتاجية من خلال الميكنة بينما نكثف العمل من خلال جهد الناس، وفي ظروف مجتمعاتنا حيث يستدعي تكثيف الإنتاجية رأس مال ضخم لشراء مصانع من غيرنا يصبح الخيار واضحا لا لبس فيه، ألا وهو خيار تكثيف العمل.

ولأن الإسلام يعظم الوسطية في الاستمتاع بطيبات الحياة الدنيا من مأكل ومشرب وملبس ومسكن بينما يعظم الاستعداد بالقوة لإرهاب أعداء الله في الأرض، فينبغي على مخططي التنمية أن يأخذوا ذلك في الحسبان؛ فيعيش الناس في حياتهم بتنمية البقاء متأسين بسيرة سيد الخلق القائل “اللهم اجعل رزق آل محمد كفافا” بينما كان هذا النبي الأمي عليه أفضل الصلاة والسلام يرسل البعوث ليتعلم الناس صناعة المنجنيق. من أجل ذلك ينبغي على الأمة أن تحرص على تنمية النماء أو السبق فيما يختص بأمور الدفاع، وهو عكس ما هو قائم الآن حيث يعيشون على عالم أشياء هو أحدث نتاج للمدنية الغربية بينما وسائلهم الدفاعية شبه معدومة.

إن توجيه الله للمؤمن فيما يتعلق بسعيه في الحياة ليحقق أكثر من احتياجاته الأساسية قد جاء في القرآن في آية عظيمة {أنزل من السماء ماء فسالت أودية بقدرها فاحتمل السيل زبداً رابياً ومما يوقدون عليه في النار ابتغاء حلية أو متاع زبد مثله كذلك يضرب الله الحق والباطل فأما الزبد فيذهب جفاء وأما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض كذلك يضرب الله الأمثال} (الرعد: 17)، فالحلية والمتاع زبد يذهب جفاء في رحلة الإنسان الكونية، ويبقى دائما ما ينفع الناس في الأرض في رحلتهم الممتدة، إن الله تبارك وتعالى لا يمنع الناس أن يتزينوا بالحلي وأن يستمتعوا بالطيبات ولكنه يجمل لهم القول وينبئهم بالحقيقة الأزلية.. إن هذه الحلي وهذا المتاع زبد يذهب جفاء في رحلتهم الكونية الممتدة أبد الآبدين، والرسول لم ينه هذا الصحابي الذي رآه يطيل المكث في زخرفة داره ولكنه ابتسم، وقال: الأمر أعجل من هذا. وعلى كل حال مطلوب من المسلم ألا يفسد بيئته ولا ينضب خزائن الأرض من طاقة ابتغاء حلية أو متاع، أوليست الطاقة هي مصدر النار التي يوقدون عليها ابتغاء حلية أو متاع.

 

الوظيفية…

تعظيم الوظيفية في كل عمل تنموي من مقاصدنا الشرعية. وفي تراثنا أن النبي عليه الصلاة والسلام رأى غلاما يركب بقرة فقال: “ما لهذا خلقت”.

والمخطط التنموي في بلد كالقاهرة يقيم مصنعا للسيارات الخاصة أم مصنعا للحافلات؟ أيهما يخدم الناس وينفعهم في مدينة مكتظة ضيقة الطرقات؟؟؟.

حتى العلم إن فقد وظيفته التنموية يصبح علما مكروها، ونحن نستعيذ بالله من علم لا ينفع.. هكذا علمنا الرسول الكريم.

والمخطط التنموي يقارن بين البدائل التنموية المختلفة، ويحاول أن يختارالبدائل ذات الوظيفية العالية، بالطبع آخذاً في الاعتبار كل العناصر الأخرى وكل الضوابط الشرعية.

 

الجمالية…

في التنمية الرعوية يحدثنا القرآن: {والأنعام خلقها لكم فيها دفء ومنافع ومنها تأكلون * ولكم فيها جمال حين تريحون وحين تسرحون * وتحمل أثقالكم إلى بلد لم تكونوا بالغيه إلا بشق الأنفس إن ربكم لرؤوف رحيم * والخيل والبغال والحمير لتركبوها وزينة ويخلق ما لا تعلمون * وعلى الله قصد السبيل ومنها جائر ولو شاء لهداكم أجمعين} (النحل 5-9).

فالدفء والمنافع والأكل والركوب الموزون كلها مقاصد وظيفية، والجمال في هذا الخلق مقصد رباني مطلوب للنفس البشرية التي ينبغي عليها أن تحقق الوظيفية والجمال في كل عمل تنموي تنشئه.

 

الحجم الأمثل …

يبذل النظام العالمي الجديد جهدا إغوائيا لإقناعنا بتبني فكره التنموي. فبينما لا يصلح لنا إداريا واقتصاديا وعلميا وتقنيا وسياسيا إلا الصناعات الصغيرة فإنه يصر على أن ننبذ كل ما نقدر عليه ونقبل على الذي لا نقدر عليه.

من كان يظن أن النظام العالمي يشارك الفلاح المصري البسيط في ربح أرضه من البطاطس. فأصبح الطفل المصري يشتري رقيقة بطاطس ثلاثة أرباع ربحها يذهب إلى الخارج: للمصنع المستورد وورق التغليف المستورد، والإضافات المجهولة المستوردة، والإدارة المستوردة، والصيانة المستوردة، ولا حول ولا قوة إلا بالله.

وهذا النظام هو هو الذي يمنعنا عن تخطيط وإصرار من المضي في أي تكنولوجيا متقدمة.

لكل بلد حجم أمثل للتنمية يتفق مع مجمل أحواله الراهنة من علم وتقنية وقدرات إدارية وسياسية واقتصادية. ورحم الله ذا القرنين عندما سأله القوم: {قالوا يا ذا القرنين إن يأجوج ومأجوج مفسدون في الأرض فهل نجعل لك خرجاً على أن تجعل بيننا وبينهم سدا * قال ما مكني فيه ربي خير فأعينوني بقوة أجعل بينكم وبينهم ردما * آتوني زبر الحديد حتى إذا ساوى بين الصدفين قال انفخوا حتى إذا جعله نارا قال آتوني أفرغ عليه قطرا * فما اسطاعوا أن يظهروه وما استطاعوا له نقبا * قال هذا رحمة من ربي فإذا جاء وعد ربي جعله دكاء وكان وعد ربي حقا} (الكهف 94- 98).

أي أن ذا القرنين رفض الخرج، وأصر على أن يعلمهم في ظل إمكانياتهم تكنولوجيا مناسبة يدرأون بها الشر عن أنفسهم.

وللاقتصادي الإنجليزي الشهير شوميكر كتاب اسمه “الصغير هو الأجمل” Small is beautiful يرفض فيه النموذج الغربي في التنمية والذي يقوم على مؤسسات شديدة الضخامة، يرفض ذلك حتى للغرب المتقدم، وينادى بالأحجام التي لا تفسد إنسانية الإنسان وتجعله عبدا لما صنع لا سيدا لما ابتدع.

 

 

القدرة الذاتية على الإيلاف…

تحتاج كل تنمية إلى نظام تعليمي وتدريبي مناسب. ومع التعليم والتدريب تحتاج إلى نظام إعلامي يحببها ويزينها في قلوب الناس حتى يقبلوا على حياتهم بطمأنينة وحب. يلخص ذلك كله كلمة عظيمة في القرآن الكريم:

{لإيلاف قريش * إيلافهم رحلة الشتاء والصيف} ويشرح الإمام الألوسي معنى الإيلاف فيقول: اجتماع مع التئام. ومع هذا الإيلاف ينمو تفاعل الإنسان مع نظامه التنموي حتى تصبح المهارات المطلوب اكتسابها ملكة في طبع الإنسان وليست صنعة فحسب.

من أجل ذلك ينبغي أن يكون الاختيار التنموي مراعيا لقدرات الناس العلمية والتقنية، أو قل بأسلوب القرآن: “من أمرهم العلمي والتقني” وليس من أمر الآخرين العلمي والتقني: {ربنا آتنا من لدنك رحمة وهيئ لنا من أمرنا رشدا}.

وإن تصميم منظومة الإيلاف التنموي لمن الأمور العظيمة التي ينبغي أن يوليها المخطط التنموي كل رعاية واهتمام.

 

الامتداد الزماني…

كل تنمية منبتة لا جذور لها في تاريخنا ولا امتداد لها لأحفادنا هي تنمية مرفوضة. والحفاظ على ما ورثناه وعشنا به قرونا وتسجيله وتطويره للوارثين من بعدنا عمل مطلوب حضارياً.

بالطبع نحن محاصرون تنموياً، والإغواء بترك ما بأيدينا من تقنيات بسيطة والانتقال إلى تقنيات جديدة لا نملكها ولم نألفها يدق فوق رؤوسنا ليل نهار.

في بلد كمصر وربما في بلاد الشام من حولنا عاش أجدادنا على صناعات صغيرة ناجحة للغاية. إننا في مصر نصنع كل منتجات ألباننا من غير ثلاجات وبأقل قدر من الطاقة. أمهاتنا يحلبن البقر والجاموس ويضعن ذلك في قربة يعلقنها ويظللن يدفعنها يمنة ويسرة حتى ينفصل الزبد من اللبن. هذا اللبن الباقي يصنعن منه الجبن القريش. أما الزبد فتصنع منه السمن الفلاحي التي لا تحتاج إلى حفظ لمدة عام على الأقل. أما الجبنة القريش فنأكل منها طازجة (أو صابحة كما نقول) وما بقي نلقي به في جِرَار المش… وكلما قدم طاب وحسن، وقطعة من الجبن القديم العتيق خير من ألف نوع من الجبن الماسخ الذي يأتينا من أعالي البحار وتمتلئ به ثلاجات محلات البقالة.

لماذا لا نحافظ على هذه التكنولوجيا ونطورها فأحسبها تكاد تندثر.

الاختيار التنموي ينبغي أن يضع نصب عينيه عملية التجذير الزماني: الأمس واليوم والغد.

وبالنسبة للامتداد الزماني المستقبلي تحضرني قصة موسى والعبد الصالح في سورة الكهف عندما استطعما أهل قرية فأبوا أن يطعموهما فوجدا جداراً يريد أن ينقض فأقامه الرجل الصالح فيقول له موسى: {لو شئت لاتخذت عليه أجرا}، فيقول العبد الصالح: {وأما الجدار فكانا لغلامين يتيمين في المدينة وكان تحته كنز لهما وكان أبوهما صالحا فأراد ربك أن يبلغا أشدهما ويستخرجا كنزهما رحمة من ربك وما فعلته عن أمري ذلك تأويل ما لم تسطع عليه صبرا} (الكهف: 82).

فأمر الله أن يبقى الكنز خافيا حتى يستطيع أصحابه أن يستخرجوه بقوة سواعدهم وبقوة علمهم، أي أن الإرادة الإلهية شاءت أن يختفي الكنز حتى يبلغ الغلامان أشدهما من قدرة على الاستخراج سواء كانت هذه القدرة بدنية أو قدرة علمية.

فإذا نظرت اليوم ورأيتنا نلهث نحن وقادتنا وراء الأمم القوية ليكشفوا هم كنوزنا ويستخرجوها لأنفسهم ويتركوا لنا الفتات فاعلم أن هذا سلوك يحرمه الفهم القرآني أشد التحريم وأن هذا ليس من التنمية الإسلامية في شيء.

 

الامتداد المكاني…

لكل تنمية أرض تعلو فيها وتزدهر وتتفاعل فيها الجغرافيا مع القيم والتقنية السائدة. وقد يكون عالم الأشياء الذي تنتجه هذه التنمية مهماً لأقوام آخرين بتعديلات مختلفة، ومن ثم فإن المشاركة في السوق العالمية (من غير رغبة في العلو والفساد) ودعمه بسلع طيبة نحن قادرون عليها هو أمر محمود للغاية في ثقافتنا. الامتداد المكاني في ثقافتنا امتداد تكامل وليس امتداد علو وقهر وفساد.

نحن لا نسلط على الناس أجهزة الإعلام بالسحر ليترك الناس الطيب الذي في أيديهم ويستبدلوا الخبيث به.

والقسط هو أساس التكامل المكاني: أعطيك بترولا وآخذ منك بضاعة أخرى.. من غير تطفيف، هو وليد ضعفنا وعلوهم وفسادهم القيمي.

حتى التنمية الرياضية، والرياضة هذه الأيام تجارة، فإنهم يزينون لنا أنواعا منها لا تصلح لها بلادنا على الإطلاق مثل لعبة الجولف. إن بلادهم تتمتع بخضرة طبيعية مجانية، أما عندنا فالحفاظ على ملعب للجولف مكلف للغاية.

الامتداد المكاني امتداد تكامل بما ينفع الناس في الأرض من غير علو ولا فساد.

ومن الامتداد المكاني الانتشار في الأرض وعدم الاكتظاظ فيها؛ فالانتشار فضيلة إسلامية {يا أيها الذين آمنوا إذا نودي للصلاة من يوم الجمعة فاسعوا إلى ذكر الله وذروا البيع ذلكم خير لكم إن كنتم تعلمون * فإذا قضيت الصلاة فانتشروا في الأرض وابتغوا من فضل الله واذكروا الله كثيرا لعلكم تفلحون} (الجمعة: 9- 10)، فإذا كان التفسح فضيلة في المجالس وهي بطبيعتها مكتظة فما بالك بالتفسح في العيش في الأرض وهي ذلول رحبة {هو الذي جعل لكم الأرض ذلولا فامشوا في مناكبها وكلوا من رزقه وإليه النشور} (الملك: 15)، والذين يكتظون في الأرض يتدافعون بالمناكب في كل شيء فتنشأ بينهم أمراض الاكتظاظ ويكثر فيهم الصراع ويستدعي ذلك ضبطا شديدا من قبل الدولة يتحول مع الأيام إلى قهر واستبداد وتقلص لحرية الأفراد رويدا رويدا حتى تصير إلى زوال.

ولقد رأينا ذلك كله في مدننا المكتظة التي فقدت فرصها التنموية كما فقدت الحرية. والتنمية الحقة هي التي تحقق وسطية بين فضيلة الانتشار في الأرض المطلوبة من أجل الأعمار، وبين قدرة الدولة على السيطرة الأمنية واستدعاء الأطراف عند الخوف من غير أن يسحق الإنسان في اكتظاظ مرضى أو أن يفقد الانتماء في انتشار تخلخلي يفقده الارتباط بالدولة و فكرتها.

7- مقاصد علوم التاريخ …

لقد حكي القرآن تاريخ أقوام من قبلنا، وحدد المقصد من هذا القصص فقال :

( وكلا نقص عليك من أنباء الرسل ما نثبت به فؤادك، وجاءك في هذه الحق وموعظة وذكرى للمؤمنين) (هود 120).

فالهدف القرآني من القصص التاريخي هو تثبيت الأفئدة على عالم القيم والعقائد التي بشر بها القرآن. كما أن عملية التثبيت هذه تتخذ وسيلتين: الموعظة للقلوب والذكري للعقول، فرواية التاريخ الحق تستحث القلوب لتبعث فيها الهمة، وتستحث العقول لتتفكر وتأخذ العبرة، وعندما حكى القرآن قصة أهل الكهف، وهي قصة مركبة تحكى عن جماعة مؤمنة وجدت نفسها أمام احتمال إبادة جسدية وعقدية، فآثرت أن تنسحب إلى كهف حضاري.

والقرآن لم يحك لنا عدد هؤلاء ولا نوعية الكهف الذي أووا إليه وعلمنا في نهاية القصة أن لا نماري فيهم إلا مراء ظاهرا ولا نستفتي فيهم منهم أحدا.

فقصة أهل الكهف تعلمنا أننا في سبيل تثبيت الفؤاد على العقائد والقيم ينبغي أحيانا أن نترك ما نحن فيه ونأوي إلى كهف جديد بعيدا عن أعين الجبارين الذين يبغوننا عوجا، ويحولون أفئدتنا عن قيمها وعقائدها وهو درس بالغ الأهمية في كل حين، ولعلنا في هذه المرحلة من سيرتنا الحضارية في حاجة ماسة إليه ودائما نبحث عن الكهف المناسب الذي نحفظ فيه قيمنا وعقائدنا، ولكل وقت ولكل جماعة كهفها المناسب تبحث عنه داعية ربها:

” ربنا آتنا من لدنك رحمة وهيئ لنا من أمرنا رشدا”.

ابتهال إلى الله أن يمنحنا من لدنه رحمة وأن يمنحنا من (أمرنا نحن) رشدا ومرفقا، وانظر إلى كلمة ( من أمرنا) أي من إمكانياتنا في ظل ظروفنا والله أعلم.

وبعد، فهذا مدخل إلى بعض المقاصد القرآنية لمنظومات متعددة، ونظن أننا لم نحط بكل المنظومات ولا بكل مقاصدها خبرا وهذا باب واسع أدعو أهل القرآن أن ينصرفوا إليه بحثا وتنقيبا.

ومدخلنا مدخل يتكامل مع مدخل الإمام الشاطبي ولكنه من زاوية أخري.

نحن انطلقنا إلى القرآن نستنطقه مقاصده من المنظومات المختلفة، أما إمامنا الشاطبي فقد انطلق من فكرة عقلية تتعلق بحفظ الدين والنفس والمال والعقل والعرض، واعتبر أن كل مقاصد الدين لابد أن تحرص على هذه الخمسة واستدعى ذلك بحوثا إلى يومنا هذا في هذه المعاني.

ولا تثريب علينا أن ندخل من أي باب شئنا، وأحسب أن المدخلين يثري بعضهما بعضا.

والله ولي التوفيق 

 

 

كتب في: 14 / 05 / 2013 | التصنيف: التفسير الحضاري |